دستور نيوز
جيسون كوالي* – (ذا نيو ستيتسمان) 9/12/2020
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
كتب أورويل روايته، “مزرعة الحيوانات”، في وقت أزمة عالمية كتحذير من سلطة الدولة القمعية. وما تزال رسالتها وثيقة الصلة اليوم، كما كان حالها على الدوام.
- * *
في كانون الأول (ديسمبر) 1936، وصل جورج أورويل إلى كاتالونيا كمتطوع في الكفاح للدفاع عن الجمهورية الإسبانية ضد التمرد العنيف الذي قاده الجنرال فرانسيسكو فرانكو وحلفاؤه القوميون. وكانت الحرب الأهلية الإسبانية، كما حال الحرب السورية الطويلة والمروعة اليوم، مسرحًا لتنافس القوى العظمى. وقد تلقى القوميون (أو الفالانجيون) الدعم من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، في حين تلقت الحكومة الجمهورية اليسارية الدعم من الاتحاد السوفياتي بزعامة ستالين. وأصبح الصراع صرخة تحشيد لليسار المناهض للفاشية في جميع أنحاء أوروبا، وذهب المتطوعون المثاليون، مثل أورويل، إلى إسبانيا للقتال في الخطوط الأمامية -بشكل أساسي في الكتائب الدولية الموالية للجمهورية- ضد قوى القومية الرجعية.
وصل أورويل إلى كاتالونيا مع زوجته، إيلين، ومن خلال شركاء في “حزب العمال المستقل” أجرى اتصالات مع الحزب اليساري المتطرف “حزب العمال للتوحيد الماركسي”. وتلقى بعض التدريبات العسكرية الأولية، ثم خدم في فرقة لينين من ميليشيا “حزب العمال للتوحيد الماركسي” على جبهة أراغون، في “قطاع هادئ من جبهة هادئة”، كما كتب لاحقًا. لكنه تلقى طلقة من قناص ذات صباح في حلقه، وكاد يموت تقريباً. وعاد إلى برشلونة، وخلال فترة نقاهته في ربيع وأوائل صيف العام 1937، شهد الرعب الذي أطلقته الحكومة الجمهورية على “حزب العمال للتوحيد الماركسي” المناهض للستالينية وأنصاره. وأُجبِر أورويل وزوجته على الفرار من البلد خوفًا على حياتهما. وسُجن أندريس نين، زعيم “حزب العمال للتوحيد الماركسي”، وعُذب ثم أُعدم فيما بعد.
تجارب أورويل في إسبانيا (لم يكن يعرفُ ذلك البلد جيدًا قبل ذهابه إلى هناك، ولم يفهم تمامًا أصول الصراع بين “حزب العمال للتوحيد الماركسي” والجمهوريين) عززت شكوكه في وجود استبداد يساري: كان مقتنعًا بأن الحزب الشيوعي الإسباني يتلقى أوامره مباشرة من موسكو. كما أن الخيانات والصراع الداخلي التي شهدها، ورفض مجلة “نيو ستيتسمان” لاحقاً، تحت رئاسة كينغسلي مارتن، نشر مقالته “كشف الأسرار الإسبانية”، التي تتضمن روايته كشاهد عيان من كاتالونيا، عززت ازدراءه لـ”المتشمِّمين الأرثوذكسيين” اليساريين، كما سماهم، ولرفاقه البريطانيين الذين يمموا شطر الاتحاد السوفياتي.
كان يعتقد أن شيئًا كريهاً وفاسداً قد حدث في إسبانيا، وأن تصرفات الجمهوريين القمعية تجاه الفصائل الأخرى المناهضة للفاشية، مثل “حزب العمال للتوحيد الماركسي”، قد خانت قضية نبيلة، وكانت تحاكي، في نواح كثيرة، أسوأ تجاوزات الفالانجيين. وأصابه ذلك بخيبة أمل عميقة، ومع ذلك، سوف يتكئ بعد عودته إلى إنجلترا على تجاربه في كاتالونيا وعلى إحساس أكثر عمومية بخيبة الأمل السياسية ليكتب الروايات العظيمة المضادة للثورة، “مزرعة الحيوانات” (1945) ورواية “1984” في العام 1949، والتي غيرت حظوظه في وقت متأخر من حياته (توفي بمرض السل عن عمر يناهز 46 عامًا في كانون الثاني (يناير) 1950) والتي ستخلده لاحقاً وتجعله قريباً من الذاكرة. - * *
أورويل الذي نعرفه اليوم، الذي يُحتفى به كقائل للحقيقة، ومنتقد واضح الرؤية للشمولية ونبي لعصرنا الجديد المليء بالأخبار المزيفة ورأسمالية المراقبة ودولة المراقبة البيولوجية، ليس هو أورويل الذي كافح للعثور على جمهور لكتاباته من إسبانيا وعنها -باع كتابه “تحية لكاتالونيا” (1938) أقل من ألف نسخة في حياته. وكان صحفيًا ومؤلفًا مستقلاً نشر، قبل ذهابه إلى إسبانيا، ثلاث روايات واقعية صغيرة وعملين من الريبورتاج المقالي، “مُعدم في باريس ولندن” (1933)، و”الطريق إلى رصيف ويغان” (1937). لم يدرس في الجامعة. وبعد أن أمضى خمسة أعوام في الشرطة الإمبراطورية في بورما، كافح لكسب لقمة عيشه ككاتب بعد عودته إلى إنجلترا. وكان لديه الكثير من الموهبة والعزم، لكنه لم يكن يتمتع في البداية بأي من الصلات الأدبية الذكية التي كانت لصديقه القديم سيريل كونولي، الناقد الأدبي والفني البليغ صاحب النزعة الكوزموبوليتانية الذي كان أورويل قد التقى به (ثم بإريك بلير) قبل أعوام عديدة عندما كانوا في مدرسة سانت سيبريان الإعدادية في شرق ساسكس ثم في إيتون.
كان أورويل متمردًا ولكنه لم يكن أبداً ثوريًا. وكما قال لي نورمان ماكنزي، وهو كاتب وأكاديمي وصديق قديم لأورويل، ذات مرة: “كان محافظًا في كل شيء باستثناء السياسة”. وقد ادعاه كل من اليساريين واليمينيين كواحد منهم -لأنه من الصعب للغاية تصنيف سياسته. في بداية حياته المهنية كان يصف نفسه بأنه “فوضوي من حزب المحافظين” ثم أطلق على نفسه وصف اشتراكي ديمقراطي، لكنه كان، كما كتب في “رصيف ويغان”، أقل اهتمامًا “بالتضامن البروليتاري” أو “ديكتاتورية البروليتاريا” من اهتمامه بما أسماه “اللياقة العامة”.
كان أورويل نوعاً من مهووسٍ بعبور الحدود، يتنقل عبر الانقسامات الأيديولوجية، مستقلًا بوضوح غير ملتبس وصانعاً طريقه الخاص. وكان محافظًا مفتونًا بعادات وطقوس الحياة الإنجليزية التي احتفى بها وقام بتشريحها في مقالاته ومقالاته الشخصية، وكان راديكاليًا كره الإمبراطورية والمدارس العامة، والذي تاقَ إلى التحول الاشتراكي للمجتمع. وكانت بداية الحرب العالمية الثانية هي اللحظة التي أقام فيها السلام مع إنجلترا ومع شعوره المتضارب بالإنجليزية. وقد أقيمت قضية وطنية عادلة في أعقاب معاهدة عدم اعتداء نازية-سوفياتية، والتي يمكن أن يؤمن بها أخيرًا.
أعجب بشكل خاص بالروح الوطنية للرجال والنساء العاديين، وقارنها بالنزعة المعادية للوطنية لدى اليسار البرجوازي التقليدي المتزمت، الذي شجب أورويل اشتراكيته “المدربة على الكتب” في “الطريق إلى رصيف ويغان”، ثم مرة أخرى في “الأسد وأحادي القرن”، مقاله الرائع الذي بطول كتاب والذي استكمله في العام 1940 أثناء غارات القصف النازي على لندن. وقالت زوجته، إيلين، في رسالة إلى صديق، عن “الأسد” إن “جورج كتب كتابًا صغيرًا… يشرح فيه كيف تكون اشتراكيًا على الرغم من كونك من حزب المحافظين”. ويلتقط هذا التعبير جيدًا جوهر ما أجده جذابًا للغاية في سياسة أورويل المعقدة: هذه الرغبة المتزامنة في المحافظة والإصلاح.
مثل خيط ينتظم كل شيء كتبه، سواء كان يتأمل تجاربه التعِسة في المدرسة الإعدادية أو التنازلات التي قدمها في خدمة الإمبراطورية كشرطي استعماري في بورما، كان ازدراؤه للسيطرة الاستبدادية. كان يكره مدير المدرسة الداخلية المتسلط بالقدر نفسه الذي كره به الأباراتشيك الستاليني أو المدير الكبير الاستعماري العنصري (1). ومثل إدموند بيرك، اعتقد أورويل أن الثورة العنيفة كانت في كثير من الأحيان بوابة للاستبداد. وكان مناهضًا للطوباوية، وعلى عكس العديد من نظرائه من المثقفين، لم ينخدع أبدًا بالتجربة السوفياتية. - * *
“مزرعة الحيوانات” هو كتاب عن ثورة، تمكن قراءته كحكاية رمزية عن الثورة الروسية والإرهاب والقمع اللذين أعقباها، وبلغا ذروتهما في المحاكمات الصورية وعمليات التطهير في الثلاثينيات. وكان أورويل معجبًا بجوناثان سويفت، و”مزرعة الحيوانات” هي هجاء سويفتي بروح “رحلات غوليفر”. وهي مكتوبة كما لو أنها لليافعين. ويتسم نثرها الواضح والشفاف -كتب أورويل في مقالته في العام 1946 “السياسة والإنجليزية” أن الكتابة السياسية يجب أن تتطلع إلى بلوغ مرتبة الفن- بقابلية سحرية للقراءة، مثل أفضل الحكايات الخرافية.
تبدأ الثورة في مزرعة مانور، في أعماق الريف الإنجليزي الجنوبي، حيث المشهد الطبيعي “الأكثر روعة” في العالم، كما وصفه أورويل في الفقرة الطويلة الأخيرة من “تحية لكاتالونيا”. وذات يوم، تثور الحيوانات ضد السيد جونز، المزارع المخمور الكسول، وتخرجه هو وزوجته وعماله من الأرض. ويغلق الحيوانات البوابات، وتصبح “مزرعة الحيوانات” -التي أعيدت تسميتها لتصبح كذلك- منطقتهم ومجالهم الخاص؛ عالماً مغلقاً غير بشري، له قواعده وأنظمته وروح المساواة الخاصة به. بل إن الحيوانات تصنع نسختها الخاصة من “الأممية”، وتصوغ دعوة محرِّضة إلى التضامن بعنوان “حيوانات إنجلترا”. وتضع الحيوانات وصاياها السبع للحيوانية لتكون دليلاً أخلاقياً للحياة الجيدة، وآخرها: “كل الحيوانات متساوية”.
ما الذي يمكن أن يحدث خطأ؟
قائدا الثورة خنزيران شديدا الذكاء والمكر، نابليون وسنوبول. وتسترشد أعمالهما بفلسفة الخنزير الحكيم القديم، ميجور العجوز، الذي يموت في وقت مبكر من القصة، ولكن ليس قبل أن يلقي خطابًا مثيرًا حول حاجة جميع الحيوانات إلى الهروب من الاضطهاد البشري. وهو يخاطب زملاءه من حيوانات المزرعة بـ”الرفاق” وينقل إليهم رسالة مباشرة: “بيننا، نحن الحيوانات، فلتكُن وحدة كاملة؛ رفقة كاملة في النضال. كل البشر أعداء. كل الحيوانات رفاق”.
إذا كان من المفترض أن يكون “ميجور” هو كارل ماركس (أو ربما لينين)، فإن نابليون وسنوبول سيكونان بالتأكيد ستالين وليون تروتسكي. أما ما إذا كان أورويل قد قصد صراحةً إلى إعادة رسم الشخصيات القيادية في الثورة الروسية ومنظريها الرئيسيين وتقديمها في شكل خنازير في مزرعة إنجليزية، فذلك لا يؤثر على التدفق الكاسح للسرد، الذي يمكن قراءته على أنه إدانة للفساد الحتمي الذي يخالط السياسات الثورية، أو كترفيه مجازيّ محكم السبك، غني بالمكائد، والفكاهة، والعاطفية والتشخيص البارع. وأنا مغرم بشكل خاص بشخصية “بوكسر”، حصان العربة العجوز الطيب المخلص -ولأسباب مختلفة بـ”سكويلر” أيضاً، وهو خنزير خبيث بارع في الدعاية، والذي يفضح كل الأسرار في سعيه إلى التقرب من سماسرة السلطة الجدد في المزرعة بالتسلق والتملق. وقد التقينا جميعًا بأشخاص من نوعه ورأيناهم وهم يزدهرون في عصر حسابات “تويتر” المجهولة وحملات التشويه عبر الإنترنت.
في أحد أيام تشرين الأول (أكتوبر)، يبذُل جونز محاولة فاشلة لاستعادة السيطرة على المزرعة. لكن الحيوانات تواجهه هو ومجموعة من المزارعين المحليين، الذين كانوا يخططون -في أي مكان آخر غير الحانة؟- وتهزمهم في ما يُسجَّل لاحقاً كأسطورة باسم “معركة حظيرة البقر”. ولكن، بدل أن يشكل هذا الانتصار تحررًا نهائياً، فإنه يفتتح فقط فترة من الظلام. وينقسم قادة الثورة حول كيفية إدارة المزرعة، ويصبح لكل منهم فصيله الخاص. يريد نابليون توطيد السلطة والأمن -ويمكن اعتبار ذلك نسخته من تطبيق الاشتراكية في مزرعة واحدة- بينما يطمح سنوبول، كما فعل تروتسكي، إلى إطلاق ثورة ممتدة واسعة النطاق، تحمل روح الثورة إلى المزارع المجاورة وما وراءها. ويخسر سنوبول الصراع الداخلي على السلطة ويُنفى. ويصبح نابليون الحاكم الاستبدادي للمزرعة، مدعومًا بشبكة من الجواسيس والمخبرين، وسرعان ما يخبرنا الراوي العليم أن الحيوانات “عملت مثل العبيد”. وفي وقت لاحق، يتم تعديل الوصية السابعة من “جميع الحيوانات متساوية” إلى “بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها” -في واحدة من أكثر الإيضاحات الموحية قوة في الأدب الحديث. - * *
تبقى جاذبية “مزرعة الحيوانات” خالدة لا يحدُّها زمن: إنها تتحدث عن اللحظة السياسية التي كُتبت فيها، في العام 1944، أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت المملكة المتحدة منخرطة في صراع وجودي ضد الفاشية، لكنها تتجاوز تلك اللحظة أيضًا بسبب عظمة القص وقوة وبساطة رسالتها السياسية. وثمة سبب يمنح صفة “أورويلي” مثل هذا الصدى العالمي: لقد فهم أورويل شيئًا أساسيًا عن الآثار الخبيثة لسلطة الدولة القمعية وحول الكيفية التي يمكن بها تشويه اللغة السياسية والتلاعب بها واستغلالها بحيث يُعرَض الزيف على أنه حقيقة، حتى في الديمقراطيات الليبرالية -بل خصوصاً في الديمقراطيات الليبرالية. وما عليك سوى أن تستمع فقط إلى عربدة دونالد ترامب لتدرك المغزى. كان أورويل يعلم أن التاريخ تمكن إعادة كتابته أو أن يُنسى -وقد أفزعه ذلك.
عمل أورويل على تأليف “مزرعة الحيوانات” عندما كان الاتحاد السوفياتي ما يزال حليفًا أساسيًا، منخرطًا في صراع بطولي في مؤخرة الجبهة ضد النازية على الجبهة الشرقية، فيما تسميه روسيا “الحرب الوطنية العظمى”. ولكن، على عكس إتش جي ويلز، على سبيل المثال، والتقدميين البارزين الآخرين في ذلك الوقت، لم تكن لدى أورويل أي أوهام بشأن الستالينية: لقد استشرف أن ما ينتظر في الأمام، كما كتب في ملف تعريفي لصديقه آرثر كويستلر، وهو شيوعي سابق خائب الأمل أيضاً ومؤلف رواية “ظلام في الظهيرة، كان “إراقة الدماء، والاستبداد، والحرمان”.
كروائي، يمكن أن يكون أورويل ثقيل اليد وبَرمجيًا، وفي بعض الأحيان، كما هو الحال في رواية “دع الزنبقة تطير” (1936) -روايته عن كاتب فقير أخبروه بإخفاقاته المبكرة في لندن الأدبية- تتسرب المرارة عبر الصفحات وتتفشى كبقعة حبر. ويمكن التنبؤ بمسار “مزرعة الحيوانات”، من مثالية الانتفاضة الأولى إلى الخيانة الحتمية لتلك الانتفاضة بمجرد أن تنفصم الوحدة بين نابليون وسنوبول. ومع ذلك، يظل المرء مندهشاً إلى ما لا نهاية، لدى إعادة القراءة، بالتحولات الحاذقة في مزاجه وعاطفته تجاه محنة معظم الحيوانات عندما تشرع ببطء في إدراك أن الثورة لم تحررها من العبودية والاستغلال؛ أن الثورة قد خُذِلت وتعرضت للخيانة.
ليس أورويل معروفاً بروح الدعابة، ومع ذلك فإن “مزرعة الحيوانات” مضحكة للغاية، كما هو حال أفضل أعمال الهجاء -خذ الأغنام في المزرعة وهي تثرثر بجنون بعبارة “أربع أرجل جيدة، رِجلان سيئتان”، أو راقب نابليون وهو يتقمص، مع مرور الوقت، صفات البشر التي كان يحتقرها ذات يوم. وينتهي به الأمر (في مفارقة مريرة) وهو يرتدي قبعة السيد جونز القديمة، ثم يشاهَد في وقت لاحق هو والعديد من الخنازير الآخرين من ذوي المراتب العليا وهم يتآمرون مع المزارعين المحليين، “ولكن كان من المستحيل فعلياً تمييز الخنازير عن البشر”. - * *
كتب أورويل “مزرعة الحيوانات” بسرعة في أربعة أشهر، لكنه لم يتمكن بعد ذلك من العثور على ناشر لها. كان الشاعر ت. س. إليوت مدير تحرير دار “فيبر أند فيبر” محافظًا، لكنه كان واحداً من الكثيرين الذين رفضوا الكتاب بغطرسة. وكتب “ليست لدينا قناعة… بأن هذه هي وجهة النظر الصحيحة التي يمكن من خلالها انتقاد الوضع السياسي في الوقت الحاضر”. كما رفضتها كولينز (باعتبارها “قصيرة جدًا”)، وفيكتور غولانكز، الذي كان قد نشر “الطريق إلى رصيف ويغان”، وجوناثان كيب (باعتبارها “معادية جدًا للسوفيات”).
في النهاية، وافق فريدريك واربورغ من دار “سيكر وواربيرغ” على نشر “مزرعة الحيوانات”، بشرط أن يتمكن أيضًا من نشر أعمال أورويل اللاحقة. واتضح أن هذا كان قرارًا تجاريًا ذكيًا بما أن كتابه التالي كان رواية “1984”، الدستوبيا الساخرة -التي عادت لتكون من أكثر الكتب مبيعًا مرة أخرى بعد فوز دونالد ترامب، الذي سخر منه الروائي فيليب روث ووصفه بـ”المهرج المتبجح”- بالرئاسة الأميركية في العام 2016.
نُشرت “مزرعة الحيوانات” في نهاية المطاف في آب (أغسطس) 1945، بعد أسبوع من قيام الولايات المتحدة بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، مؤذنة بالكآبة والبارانويا اللتين وسمتا العصر النووي. وبحلول ذلك الوقت، كان الحلفاء قد انتصروا في أوروبا، وكان الاتحاد السوفياتي قد أسهم بشكل كبير، مع ملايين الأرواح التي فقدت، في هزيمة النازية. لكن رسالة “مزرعة الحيوانات” لم تنتصر. احذروا، قالت الرواية، لن يأتي أي خير من الثورة الشيوعية أو من العقل الشمولي.
حظيت الرواية بمراجعات إيجابية في الغالب، خاصة من سيريل كونولي Cyril Connolly، وبيعت الطبعة الأولى المكونة من 4.500 نسخة في غضون أيام قليلة، وكذلك فعلت الطبعات اللاحقة. وبعد أعوام من الإهمال النسبي، وجد أورويل نفسه مرغوبًا ومطلوبًا. وانتشر الكتاب بقوة في الولايات المتحدة أيضاً. واختار “نادي الكتاب الأميركي” الرواية لتكون “كتاب الشهر”، وهو ما عنى طباعة 540 ألف نسخة راجعها الناقد الشهير إدموند ويلسون في مجلة “نيويوركر”، وقال إنها عمل “من الطراز الأول قطعاً” وتوقع أن يظهر أورويل كواحد من “الكُتاب الأكثر قدرة وإثارة للاهتمام الذين أنتجتهم الإنجليزية في هذه الفترة”. وقبل أسابيع قليلة من وفاته في 21 كانون الثاني (يناير) 1950، قال أورويل، وقد أصبح الآن مصاباً بمرض قاتل: “لقد جنيت كل هذه الأموال والآن سأموت”.
وفي خمسينيات القرن الماضي، استخدمت وكالة المخابرات المركزية “مزرعة الحيوانات” كأداة للدعاية المعادية للسوفيات ووزعت أعدادًا ضخمة من النسخ. وبطبيعة الحال، حُظرت الرواية في الاتحاد السوفيتي ومداره، وما تزال محظورة حتى اليوم في العديد من الدول القمعية، ولو أنها متاحة بحرية في الصين. - * *
قرأت “مزرعة الحيوانات” أول مرة عندما كنت مراهقًا في ثمانينيات القرن الماضي، خلال حقبة الحرب الباردة (وهي عبارة أشاعها أورويل نفسه)، عندما كان التهديد بالإبادة النووية يلقي بظلاله على خيالنا كله، وبدت الحياة خلف “الستار الحديدي”، كما سمّاه تشرشل، تهديداً لأنها كانت مجهولة. ولم أستطع في ذلك الحين معرفة ما إذا كان أورويل من اليسار السياسي أم من اليمين، وقرأت الكتاب القصير الذي كتبه عنه الناقد الثقافي ريموند ويليامز ليساعدني في القرار. لكنه لم يساعد.
كان ما فهمته في ذلك الحين، مع أن تصوراتي السياسية لم تكن مكتملة، هو أن أورويل وقف إلى جانب الحرية وقول الحقيقة. ويمكنك قول إنه كان من اليسار، ولكن ليس مع اليسار أو ضده. لم يكن يؤمن بحتمية التقدم، أو باعتناق الاشتراكية “المدربة على الكتب”، أو السعي إلى المساواة المطلقة. لكنه كان يؤمن باللياقة العامة.
الآن، بينما أكتب هذه السطور في ربيع العام 2020، تتعمق جائحة فيروس كورونا المستجد وتسارع الخطو، ومع ذلك يزدهر التضامن الاجتماعي، حتى بينما نُضطر إلى “التباعد اجتماعياً” عن بعضنا بعضا. ويبدو أكثر من أي وقت مضى، في عمق هذه الأزمة العالمية، أن اللياقة العامة تجاه الغرباء يمكن أن تجلب السلوى والإلهام كما فعلت مع الكثيرين خلال أحلك فترة من الحرب العالمية الثانية، عندما كان جورج أورويل يكتب “مزرعة الحيوانات” وكان الكثير من العالم عالقاً في قبضة الطغيان.
*Jason Cowley: محرر في “ذا نيو ستيتسمان”. كان محررًا لـGranta، ومحررًا كبيرًا في “الأوبزرفر” وكاتبًا في “التايمز”. نُشرت “مزرعة الحيوانات”، مع مقدمة بقلم جيسون كاولي، بإصدار”ماكميلان كولكتر” في 7 كانون الثاني (يناير) 2021، كجزء من سلسلة الإصدارات الجديدة من أعمال أورويل.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: George Orwell and the road to revolution
هامش:
(1) أباراتشيك، بالروسية аппара́тчик مصطلح روسي عام يشير إلى موظف محترف في الحزب الشيوعي أو الحكومة؛ على سبيل المثال عميل جهاز حكومي وحزبي في منصب ذي مسؤولية بيروقراطية أو سياسية، ويعد وصف أباراتشيك مهيناً ويوحي بالعديد من المفاهيم السلبية عن الشخص الذي يوصف به.
مقالات ذات صلة
جورج أورويل والطريق إلى الثورة – الدستور نيوز
عذراً التعليقات مغلقة