دستور نيوز
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
فينسينت إيمانويلي* – (كاونتربنتش) 19/3/2021
الآن، بعد ثمانية عشر عامًا من قرار دبليو بوش الإجرامي بغزو واحتلال العراق، تجد الإنسانية نفسها على حافة هاوية تاريخية فريدة من نوعها. سوف يعيد تغير المناخ وحده تشكيل المشهد العالمي وكل جانب من جوانب حياتنا بطرق لا يمكن لأحد أن يتخيلها. وهو يفعل ذلك مسبقاً. ولا يمكن للاقتصاد العالمي، الذي يعتمد على نموذج نمو لا ينتهي، توفير حياة محترمة وكريمة لمعظم الناس، دافعاً بالمليارات من الناس إلى هوامش المجتمع. وما تزال أنظمتنا السياسية والقانونية معطلة بالكامل، وقديمة عفا عليها الزمن وغير ملائمة. والحكومات الاستبدادية آخذة في الصعود. وحتى الآن، لم يقدم اليسار العالمي بديلاً منظمًا وجادًا ومتماسكًا.
* * *
قبل ثمانية عشر عامًا، كنت أجلس على سريري في مقر مؤقت للفرقة، في انتظار الأوامر النهائية لعبور الحدود من الكويت إلى العراق. كان الزملاء من مشاة البحرية يكتبون الرسائل لأحبائهم، ويتفقدون معداتهم للمرة الألف، أو يدخنون السجائر بعصبية. وكان آخرون يمزحون حول مضاجعة النساء العراقيات ومن هو من بينهم الذي سيقتل معظم العراقيين. كما تعلمون، كان جميع الأولاد الأميركيين يخوضون قتالاً خيِّراً، حيث يقف الله إلى جانبنا، كما غنى ديلان ذات مرة. وبعد أشهر عدة من المعسكر التدريبي الصارم وتدريب المشاة، حان وقت الرقص والصخب. أخيرًا، وصلت الحرب.
هناك، في الوطن، كان ثمة خاسر نصف أحمق ومتهرب من الجندية، يتوق إلى تعويض إخفاقات والده السياسية ويتطلع إلى صنع إخفاقاته الخاصة، عاكفاً على إغواء الأميركيين بخطاب مبتذل آذن ببداية الحرب الأكثر تدميراً وتداعيات في القرن الحادي والعشرين. في ذلك الوقت، قليلون فقط هم الذين كانوا يفهمون الخطورة الكارثية التي ينطوي عليها قرار بوش، سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو لبقية العالم، على الرغم من أن العديد من النشطاء المناهضين للحرب فعلوا، إذا ما أردنا أن نكون منصفين.
في ذلك الوقت، كانت إدارة بوش قد أمضت أشهرا عدة في الكذب على الرأي العام الأميركي حول صلات العراق المفترضة بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). وجادل ديك تشيني بأن صدام حسين وأسامة بن لادن كانا صديقين حميمين، لكن تلك العلاقة لم تكن موجودة أبداً في الواقع. وجادل فريق بوش بأن صدام كان يمتلك أسلحة دمار شامل، لكن هذه الأسلحة لم تكن موجودة أيضاً. وطاردت الأشباح بوش ورفيقيه من المحافظين الجدد في حقبة الحرب الباردة، ديك تشيني ودونالد رامسفيلد. وهم حولوا تلك الأشباح إلى خوف -الذخيرة اللازمة لإعادة تشكيل العالم حسب رؤيتهم، أو كان هذا ما ظنوه.
قبل مضي طويل وقت، انخفضت الروح المعنوية في فصيلتنا بحدة. تحولت الأسابيع إلى أشهر، وتحولت الأشهر إلى أشهر أخرى كثيرة. وسرعان ما تحول ما كان يُفترض أن يكون تكرارًا لـ”حرب الخليج” الخاطفة في العام 1991 إلى حملة عنيفة لمكافحة التمرد، لم تشهد القوات الأميركية لها مثيلاً منذ محاولتها الفاشلة لهزيمة المناهضين للإمبريالية في فيتنام ولاوس وكمبوديا. وهنا، حلت السيارات المفخخة والعبوات البدائية الصنع محل فخاخ عصي البنجي المدببة والهجمات والكمائن المتنقلة عالية التنسيق. واستُبدل الرجال الذين بالبيجامات البيضاء برجال يرتدون البيجامات السوداء(1).
في الولايات المتحدة، كان الناس غير منظمين بعد عقود عدة من الانتصارات السياسية للمحافظين الجدد والنيوليبراليين، لا سيما ما فعلوه لتدمير العمل المنظم. وقد نظم اليسار، الذي كان بالكاد على قيد الحياة، مسيرات واحتجاجات مناهضة للحرب، لكنه لم يطور أبدًا الكثير من الرؤية أبعد من مجرد التعبئة الكبيرة. وحتى لو أنه فعل، فإن البنية التحتية الاجتماعية والسياسية لتنفيذ مثل تلك الرؤية لم تكن موجودة.
أما وقد قيل هذا، فإنني أود التعبير عن تقديري الكبير لأولئك الذين رفعوا أصواتهم بالاحتجاج في ذلك الوقت. قد لا يتذكر الشباب، وقد يختار الأشخاص الأكبر سنًا النسيان، لكن الاحتجاج على الحرب في الأعوام التي أعقبت 11 أيلول (سبتمبر) كان يتطلب بعض الشجاعة. كان الأشخاص الذين يرفعون أصواتهم بمعارضة الحرب يوصفون بالخونة والمتعاطفين مع الإرهاب من قبل الشخصيات الإعلامية اليمينية، والنشطاء المحافظين، وحتى الجمهوريين العاديين. كانت معارضة الحرب تعني أن المرء يكره قدامى المحاربين والعلَم الوطني. هكذا كان المناخ السائد في ذلك الوقت على الأقل.
بطبيعة الحال، لم تتم أبداً مناقشة أحلام ورغبات ومخاوف الشعب العراقي بعد الحرب الإيرانية العراقية المدمرة (1980-1988)، و”حرب الخليج” السريعة والدموية التي استخدمت في ذخائرها المواد الكيمياوية (1990-1991)، والعقوبات القاتلة (1991-2003)، أو النظر فيها وأخذها في الاعتبار. وفقا لسلاح مشاة البحرية والرجال الذين دربوني، فإن العراقيين كانوا “زنوج رمال” و”حجاج” و”فرسان جِمال”. وفي الوطن، كان يطلق عليهم “الإرهابيون” أو “رؤوس المناشف” (كناية عن ارتداء العمامة أو الكوفية). حتى أن كراهية الأجانب جعلت الأميركيين يخلطون بين السيخ والمسلمين، فضايقوهم الأوائل واستهدفوهم وهم يسعون وراء الأخيرين.
في 15 أيلول (سبتمبر) 2001، بعد أقل من أسبوع من أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، تعرض بالبير سينغ سودي للهجوم والقتل على يد فرانك سيلفا روك، البالغ من العمر 42 عامًا، خارج محطة وقود شيفرون التي يمتلكها بالبير في ميسا، أريزونا. في ذلك الوقت، كان بالبير يزرع الزهور خارج متجره عندما توقف روكي في شاحنته الصغيرة، وأطلق عليه النار خمس مرات من بندقية نصف آلية. ثم قُتل شقيق بالبير الأصغر، سوخبال، برصاصة طائشة أثناء قيادته سيارة الأجرة التي يقودها في سان فرانسيسكو بعد أقل من عام. يحدث هذا فقط في أميركا.
وفي العراق، سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، ومن الأسوأ إلى ما لا يمكن تحمله في غضون بضعة أعوام. وبحلول انتشارنا الثاني (آب (أغسطس)
2004 – نيسان (أبريل) 2005)، استطعنا أن نرى الكتابة واضحةً على الحائط: العم سام لن يغادر بلاد ما بين النهرين في أي وقت قريب. فعلى عكس فيتنام، كانت لهذه الحرب أهمية جيوسياسية حقيقية: النفط. وحتى جورج كينان، الأب الروحي لـ”نظرية الدومينو”، كان قد أدلى بشهادته ضد تورط الولايات المتحدة في فيتنام أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في العام 1966.
لكن النفط وحده لم يكن سبباً كافياً لإبقاء الولايات المتحدة في العراق. كان على بوش وشركاه أن يحفظوا ماء الوجه. لم يكن التعرض للإحراج الدولي خيارًا. وعلى الرغم من أن المقاومة العراقية أضعفت بالفعل الجهد العسكري الأميركي، لم يستطع جورج بوش الاعتراف بالهزيمة، ليس في ذلك الوقت، وليس الآن، ولا في أي وقت قادم أبداً. كانت الحرب عادلة. وكان السبب أخلاقياً وسامياً. “فليذهب الرافضون إلى الجحيم!”، كما هتف المحافظون الجدد والمسيحيون الإنجيليون الذين أيدوا الحرب بشدة، والذين خدم القليلون منهم فيها بأنفسهم. وليس من المستغرب أن معظمهم ما يزالون يدافعون عن الحرب.
اتضح أن الغطرسة والدوغما الأيديولوجية قوى قوية، لا سيما عندما تكون مجتمعة، تماماً مثلما هي المصالح المادية أو السياسة الواقعية المتصورة. ومع ذلك، لم يكن أي من هذا مهماً في نهاية المطاف. فقد اشتبك العراقيون، مثلهم مثل الفيتناميين، مع القوات الأميركية، وهم يعرفون دائمًا شيئًا واحدًا: بغض النظر عما حدث، فإنهم كانوا يقاتلون في وطنهم. كانت الولايات المتحدة في زيارة مؤقتة فحسب. وسواء استمرت تلك الإقامة المؤقتة خمسة عشر عامًا أو خمسة عقود، فإن العراقيين دائماً سيصمدون ويواصلون. كانت ثقافة تضرب عميقاً في التاريخ وصولاً إلى فجر الحضارة تحارب ثقافة نشأت على شطائر هامبرغر “بيغ ماك”. وكانت النتيجة متوقعة، بغض النظر عن التفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي لأميركا.
في العراق، كان جنود البحرية يتحولون من مراوغة العبوات الناسفة وإطلاق النار على المدنيين إلى تعذيب السجناء، كل ذلك في يوم عمل واحد. وقد أرهبت الوحدات الآلية الفلاحين، وضربت بأكياس الرمل رؤوس الشباب العرب الأبرياء الذين اعتُبروا “أهدافًا عالية القيمة”. ولم يكن معظمهم يستطيعون التحدث باللغة الإنجليزية ولم يفهموا أبدًا السبب في أسرهم. حظ سيئ جداً بالنسبة لهم، إيه؟ لقد تواجدوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. هكذا هي الكيفية التي تسير بها الأمور. الحروب فوضوية، على الأقل هذا ما قاله لنا جنرالاتنا.
هبطت المعنويات إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق في نهاية الانتشار الثاني، عندما أبلغ قادتنا العسكريون الكتيبة بأن بعضنا سيخدمون في العراقة لفترة ثالثة. بحلول ذلك الوقت، أصبح الكوكايين والحشيش دعائم أساسية مقيمة في معسكر القاعدة. كان البعض منا يتعاطون المخدرات ويدخنون الحشيش وهم في الدورية وأثناء وقوفهم في نقاط المراقبة. كان مشاة البحرية يسكرون بانتظام ويقومون بأعمال الدورية ويتجولون من دون معداتهم المناسبة. لم يكن أحد يهتم. وأولئك الذين فعلوا تعرضوا للسخرية أو تم تجاهلهم.
بحلول الوقت الذي عدنا فيه إلى الوطن، كان معظم أفراد الفصيلة قد أصبحوا مدمني كحول كاملين، أو مدمني مخدرات أو مدمني جنس، أو خليط من الثلاثة. وبدأت حالات الطلاق، وتهم الاعتداء، والقيادة تحت السُّكر أو المخدرات، والمشاكل في مرافق إعادة التأهيل، بما في ذلك حالات الانتحار، والإفراط في تعاطي المخدرات، والتشخيص بالإصابة بالسرطان. كما تعلمون، نوع الهراء الذي لا يرُونه لكم في إعلانات الدعوة إلى الخدمة أو يتحدثون عنه في مركز التجنيد.
لكن هذا نصف القصة فقط. غالبًا ما تكون الآثار اللاحقة للقتال أكثر تدميراً من العمل نفسه، والذي كان، بصراحة، ممتعًا جدًا في بعض الأحيان. لا شيء يضاهي نشوة دفق الأدرينالين في تبادل لإطلاق النار. لا شيء. وهذا هو السبب في أن الكثير من الرجال يفتقدونه. وهو السبب في أن الكثيرين يسعون إلى المغامرة في الحياة المدنية، أحيانًا على حساب أنفسهم والآخرين. السيارات والدراجات النارية السريعة تترك جثثاً مشوهة. ويمكن للإبرة في الذراع أن تجلب الكثير من الراحة فقط: والزجاجة، الشيء نفسه. هذا صحيح: الحياة المدنية مملة. ويفهم كل من خاض قتالًا هذا القدر. على المستوى الشخصي جداً، على المستوى خلاياك، تغيرك الحرب مرة وإلى الأبد.
على المستوى الجيوسياسي، لم نفهم تمامًا الآثار طويلة المدى لحرب العراق بعد. وربما لن نفعل أبدًا. الخسائر البشرية مذهلة: في أي مكان ما بين 250.000 و1.000.000 قتيل، مع نزوح الملايين، خارجياً وداخلياً. وثمة مئات الآلاف الذين يعانون أمراضا مدى الحياة بسبب الذخائر الممزوجة بالعناصر الكيميائية مثل اليورانيوم المنضب، أو الأجساد التي تشوهت بسبب غارات القصف، أو ضربات الطائرات من دون طيار، أو الإصابة برصاصة طائشة أو بعض شظايا القنابل المتنوعة. وتسببت حرب العراق في أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. وأطلقت العنان لقوى عبر ليبيا وسورية وخارجها، والتي تشبه أكثر القوى رجعية وقتلاً في العصور الوسطى.
كما مات الآلاف من الجنود الأميركيين بسبب الأكاذيب والغطرسة. وسوف تعاني عائلاتهم إلى الأبد الندوب، عاطفيًا واجتماعيًا وروحيًا. وينطبق الشيء نفسه على عائلات العراقيين مجهولي الأسماء الذين لقوا حتفهم في ساحات المعارك المتربة في بلاد ما بين النهرين. وقد قتل عشرات الآلاف من قدامى المحاربين أنفسهم، تاركين وراءهم أسرًا مفككة وأجيالًا من الصدمات العاطفية. إن التقاط جسد صديقك الميت أو أطرافه الممزقة والمدماة هو أمر فظيع بما فيه الكفاية، لكنه يصبح أسوأ بكثير عندما تدرك أخيرًا أن كل شيء كان بلا داعٍ، ما يُعرف بخلاف ذلك بـ”الضرر المعنوي”. حسنًا، ليس بلا داعٍ بالضبط -لقد صنعنا للكثير من الناس الكثير جداً من المال وغذينا الذوات المريضة لكثير من الناس المضطربين الذين اعتقدوا أنهم يسيطرون على العالم.
في المستقبل، أستطيع أن أتخيل الشباب وهم يتحدثون عن “حروب النفط الكبرى في القرن الحادي والعشرين”؛ عن خوض الحروب من أجل النفط، السلعة ذاتها التي قد تتسبب في نهاية الحضارة. ويا للمفارقة. في غضون بضعة أشهر، سوف يخطو شاب أو شابة -لم يكونوا حتى قد وُلدوا عندما بدأت حرب العراق- على رمال العراق كمقاولين، أو مسؤولين في وزارة الدفاع، أو أفراد عسكريين. هل يمكنكم أن تتخيلوا؟
في الوطن، ساعدت الحرب على تدمير ما تبقى من نظام سياسي وقانوني كان غير ديمقراطي ومهترئاً مسبقاً. وأصبحت لدى الأميركيين ثقة أقل في وسائل الإعلام، في ما يرجع أساسًا إلى الأكاذيب التي قالها الصحفيون والمنافذ الإخبارية خلال الفترة التي سبقت الحرب. وقد آذنت حرب العراق بفترة من عدم الثقة في المؤسسات الليبرالية. وكان هذا، من دون شك، اتجاهاً ينمو قبل العام 2003 بوقت طويل، لكنه واحد سرّعته الأكاذيب التي حاولت تبرير مغامرات إمبريالية مكلفة (2 تريليون دولار، وما يزال الرقم في ازدياد).
مع ذلك، بحلول العام 2008، رفع الواقع الحجاب حقاً عن وجه الإمبريالية والرأسمالية الأميركيين. كانت الصحافة والحكومة نفسها التي كذبت بشأن أسلحة الدمار الشامل تكذب الآن بشأن الأصول، (ملقية باللوم على الفقراء والنقابات بدلاً من المصرفيين والشركات) في “الركود العظيم”، أكبر كارثة اقتصادية تضرب الولايات المتحدة منذ العام 1929 (إلى أن ضربها فيروس كورونا المستجد). ونتيجة لذلك، بحلول العام 2010، تولى “حزب الشاي” السلطة. في العام 2017، دخل ترامب البيت الأبيض، والباقي تاريخ.
الآن، بعد ثمانية عشر عامًا من قرار دبليو بوش الإجرامي بغزو واحتلال العراق، تجد الإنسانية نفسها على حافة هاوية تاريخية فريدة من نوعها. سوف يعيد تغير المناخ وحده تشكيل المشهد العالمي وكل جانب من جوانب حياتنا بطرق لا يمكن لأحد أن يتخيلها. وهو يفعل مسبقاً. ولا يمكن للاقتصاد العالمي، الذي يعتمد على نموذج نمو لا ينتهي، توفير حياة محترمة وكريمة لمعظم الناس، دافعاً بالمليارات منهم إلى هوامش المجتمع. وما تزال أنظمتنا السياسية والقانونية معطلة بالكامل، وقديمة عفا عليها الزمن وغير ملائمة. والحكومات الاستبدادية آخذة في الصعود. وحتى الآن، لم يقدم اليسار العالمي بديلاً منظمًا وجادًا ومتماسكًا. ومع ذلك، هناك حاجة إلى البدائل الآن أكثر من أي وقت مضى. والمطلوب في الحقيقة هو تغييرات جذرية، ليس للأغراض الأيديولوجية أو الأخلاقية، وإنما من أجل البقاء نفسه.
مع ذلك، سوف أتوقف اليوم لحظة لأفكر في أصدقائي القتلى وفي الأرواح التي أزهقتُها في ساحة المعركة في العراق؛ في تضاريس قصية من الأحلام المنسية والذكريات الممزقة. وعلى عكس الأعوام السابقة، لن أبكي. فقد جف خزان دموعي منذ زمن بعيد. وخزان الغاز الذي يشعلني، المليء عادة بالغضب، نضب وأصبح ينطوي على الخواء. وقد تعبت ونالني الإنهاك. لقد تركَت الحرب خسائرها. ثمة ثمانية عشر عامًا من التأملات، والاحتجاجات، والكوابيس، والمقالات، والخطب، والمقابلات، والأفلام الوثائقية، والمحادثات، والأشباح التي جعلتني مرتبكًا ومرتاباً إلى حد ما، وأحياناً سوداوياً -ومع ذلك أكثر فضولاً والتزاماً من أي وقت مضى.
نعم، ما أزال أواصل التحدث عن الحرب. إنها مسؤوليتي. ينبغي أن أجيب عن مجموعتين من الناس: أحبائي (العائلة والأصدقاء) وشعب العراق. إنهم الناس الوحيدون على ظهر هذا الكوكب الذين أدين لهم بدين مستحق؛ واحد سأقضي بقية وقتي في هذه الدنيا في سداده. وهذا جيد. هكذا هي الحياة.
من دون المسؤولية والمساءلة، والحب والاحترام، وآفاق الفداء والخلاص والولادة، أين كنا سنكون كمجتمع، كنوع؟ لقد سامحت نفسي منذ زمن بعيد على مشاركتي في الحرب. لم أعد أعجز عن النوم بسببها. في هذه الأيام، ما يؤرقني هو عجزنا عن تطوير مؤسسات سياسية قادرة على توفير بديل عن الرأسمالية، والإمبريالية، والعنصرية، والأبوية، والدمار البيئي، والعنف.
في نهاية المطاف، يظل البشر مخلوقات مرنة وقادرة على التكيف. نحن لسنا مسالمين أو عنيفين بطبيعتنا -نحن نوع من الاثنين. وهذا، من بين أمور أخرى، هو ما يجعلنا مميزين، ومعقدين ومتقلبين. لقد أعطانا التطور الطبيعي هذه الأدمغة العملاقة، لكننا ما نزال لا نتقن كيفية استخدامها -ويا له من تحدٍ رائع آسر.
في يوم من الأيام، ربما يمكن للبشرية أن تعيش في سلام. وحتى ذلك الحين، يجب أن نقاتل بلا كلل للدفع بنوعنا في ذلك الاتجاه. ويبدأ ذلك بقول الحقيقة. يبدأ بتذكر تاريخنا الجماعي وموقعنا الذاتي في داخله. الآن، بعد ثمانية عشر عاماً، دعونا لا ننسى حرب العراق.
*Vincent Emanuele: كاتب ومحارب قديم مناهض للحرب ويبث برنامجاً إذاعياً. وهو أحد مؤسسي PARC “السياسة والفن والثقافة الشعبية” والمركز المجتمعي الثقافي للمبادرة في مدينة ميتشيغان، إنديانا. وهو عضو في منظمة “قدامى المحاربين من أجل السلام” و”سكان مدينة ميتشيغان المنظمون والمتحدون”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Iraq War: 18 Years Later
18 عاماً على حرب العراق – الدستور نيوز
عذراً التعليقات مغلقة