دستور نيوز
عمان – بينما تملأ الصور المروعة لأشلاء الأطفال والنساء والشيوخ، والدمار الهائل الناجم عن حرب الإبادة غير المسبوقة التي تشنها قوات الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، شاشات الفضائيات ومواقع وكالات الأنباء، فإن حرباً لا تقل إجراماً تقريباً يشنها نفس الاحتلال المجرم في الضفة الغربية.
وبحسب التقرير الاقتصادي الذي أعدته وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) لصالح اتحاد وكالات الأنباء العربية (فانا)، فإن جوهر هذه الحرب هو الاستيلاء على الأرض، وسرقة أموال الضرائب الفلسطينية، والسيطرة على الموارد الطبيعية، وفي بعض المواقع تكرار نموذج غزة: القتل والتدمير، كما يحدث في محافظات جنين وطولكرم ونابلس وطوباس وغيرها من مدن الضفة الغربية، وكل ذلك من أجل هدف واحد: تضييق الأرض على الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه.
في نكبة 1948 كانت المجازر هي الوسيلة التي اتبعتها العصابات الصهيونية لتهجير الفلسطينيين قسراً، وكانت النتيجة تهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني. وبعد عام 1967 انتقلت الحكومات الإسرائيلية إلى أسلوب جديد يقوم على تغيير قوانين (المواطنة/الإقامة) بشكل مفاجئ ومتكرر، دون إعلان، بحيث وجد مئات الآلاف من الفلسطينيين أنفسهم مهجرين جدداً في دول العالم.
منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، انتقل الاحتلال إلى أسلوب جديد في التهجير، يتمثل في إفقار الفلسطينيين وتقييد معيشتهم في أرضهم وحرمانهم من أبسط مقومات الحياة، وقد بلغ هذا الأسلوب ذروته هذه الأيام، في ترجمة حرفية لتصريح أحد الوزراء الإسرائيليين قبل عدة سنوات: “سنجلب الجحيم إلى أبواب غرف نومهم”.
منذ بدء الحرب الصهيونية على قطاع غزة تصاعدت وتيرة الاقتطاعات من أموال الضرائب الفلسطينية (المقاصة)، وهي أموال يدفعها الفلسطينيون مقدماً على شكل رسوم جمركية وضريبة قيمة مضافة على الواردات الفلسطينية من الكيان المحتل ودول العالم، وتحصلها حكومته في الموانئ والمعابر لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية، شريطة تحويلها كاملة، دون أي اقتطاعات، كأموال فلسطينية بحتة، باستثناء “عمولة تحصيل” قدرها 3%، وفقاً لـ”بروتوكول باريس”، أحد ملاحق اتفاق أوسلو، والذي ينظم العلاقة بين الأراضي الفلسطينية والكيان لفترة مؤقتة، كان من المفترض أن تنتهي في عام 1999.
ولكن مدة الاتفاق تجاوزت المدة المحددة، ومازالت سارية المفعول حتى اليوم من قبل قوات الاحتلال، بل إن الاحتلال تعمد تنفيذها في اتجاه واحد، بما يحقق مصالحه دون أي اعتبار للمصالح الفلسطينية، بما في ذلك مصادرة واحتجاز أموال المقاصة التي تشكل في مجموعها نحو 60% من إيرادات السلطة الفلسطينية.
وبدأت عملية اقتطاع الاحتلال، المخالفة للقانون الدولي والاتفاقيات الثنائية، من أموال المقاصة الفلسطينية منذ أكثر من 15 عاماً، من خلال اقتطاع ما يقول إنها رسوم خدمات: كهرباء ومياه ومجاري وخدمات طبية في مستشفيات الاحتلال. وتقدر وزارة المالية حجم هذه الأموال التي اقتطعت خلال السنوات العشر الماضية بنحو 5.5 مليار دولار، بمعدل شهري يتراوح بين 11 و13 مليون دولار.
وفي العام 2019، بدأ الاحتلال باقتطاع مبالغ جديدة يقول إنها تعادل ما تدفعه السلطة الفلسطينية شهرياً لأسر الشهداء والجرحى والأسرى، بمعدل شهري قدره 14.5 مليون دولار. وبعد بدء الحرب على غزة، بدأ باقتطاع مبالغ جديدة قدرها 70 مليون دولار، يقول إنها تعادل دفعات السلطة الشهرية للقطاع، على شكل رواتب لموظفيها، ومساعدات اجتماعية للأسر الفقيرة، وفواتير كهرباء القطاع، ومصاريف أخرى. وأخيراً، أضيف اقتطاع جديد بقيمة 16 مليون دولار لسداد ما يقول الاحتلال إنها ديون متراكمة لشركة الكهرباء التابعة له.
وبالمحصلة فإن متوسط إيرادات المقاصة الشهرية التي يحولها الاحتلال للسلطة حتى سبتمبر/أيلول من العام الماضي، أي الشهر الذي سبق الحرب على القطاع، بلغ 270 مليون دولار (بعد خصم رسوم الخدمات، ومخصصات أسر الشهداء والجرحى والأسرى)، إلا أنها بدأت تتراجع بسرعة في الأشهر الأخيرة بسبب الاقتطاعات الإضافية التي يفرضها الاحتلال، لتصل فقط إلى 50 مليون دولار، أي 15% من إجمالي نفقات السلطة التي تبلغ 325 مليون دولار شهرياً.
كما تراجعت عائدات الضرائب المحلية التي تجبيها الحكومة الفلسطينية مباشرة من الأنشطة التجارية المحلية بسبب الانكماش الحاد الذي تعرض له الاقتصاد الفلسطيني نتيجة تداعيات الحرب على غزة، ما دفع البنك الدولي إلى التحذير في تقريره الأخير في يونيو/حزيران الماضي من أن السلطة على حافة الانهيار المالي ما لم يتوقف الاحتلال عن اقتطاعاته غير القانونية من أموال المقاصة.
وبحسب وزارة المالية الفلسطينية، وبموافقة مؤسسات دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإن هناك 8 ملفات مالية عالقة بين السلطة والاحتلال، أبرزها: الاقتطاعات من عائدات المقاصة، واحتساب تعرفة الكهرباء، وضريبة الخروج عبر الحدود الأردنية، وضرائب الاحتلال من المناطق الفلسطينية خارج المدن (مناطق ج).
وتقدر الحكومة الفلسطينية أن تسوية هذه الملفات ستوفر أكثر من 500 مليون دولار سنويا، وهو ما يكفي للقضاء على العجز في الموازنة العامة، ما يعني عدم الحاجة للمساعدات الخارجية لتمويل النفقات الجارية، ويمكن توجيه هذه المساعدات نحو مشاريع التنمية.
ومنذ بدء حربه على غزة، منع الاحتلال 200 ألف عامل فلسطيني من دخول الأراضي الفلسطينية والعمل فيها، ما حرم الاقتصاد الفلسطيني من تدفقات نقدية تقدر بنحو 350 مليون دولار شهرياً، والتي كانت تشكل محركاً أساسياً للنمو في الأراضي الفلسطينية وتنشيط الأسواق.
وحتى تولي حكومة الاحتلال الحالية برئاسة رئيس الوزراء الصهيوني المتطرف بنيامين نتنياهو السلطة في العام 2021، وهي الأكثر تطرفاً في تاريخ الاحتلال، كانت مساحة المستوطنات الاحتلالية تشكل 3.5% من مساحة الضفة الغربية، بالإضافة إلى 9.5% من الأراضي الواقعة تحت نفوذ هذه المستوطنات.
لكن وتيرة الاستيلاء على الأراضي تسارعت بشكل حاد في ظل حكومة نتنياهو الحالية، وخاصة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، حيث استولت على مئات الآلاف من الدونمات تحت مسميات مختلفة، بما في ذلك ذريعة تحويلها إلى “أراضي دولة”، وصادقت على إقامة مئات الآلاف من الوحدات الاستيطانية.
وإضافة إلى المساحة التي تسيطر عليها المستوطنات بشكل مباشر، هناك ما يقارب 62% من أراضي الضفة الغربية، المصنفة بالمنطقة “ج” حسب اتفاق أوسلو، وهي المساحة الأساسية للدولة الفلسطينية، وهي أراضي يحظر على الفلسطينيين البناء عليها أو الاستثمار فيها أو استغلال مواردهم الطبيعية، مثل أحواض المياه الجوفية وموارد البحر الميت.
وتقدر منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) خسائر الاقتصاد الفلسطيني جراء فقدان فرص الاستثمار في المناطق المسماة (ج) بنحو 4 مليارات دولار سنويا.
وتعتبر الأراضي المسماة (ج) الخزان الرئيسي للموارد الطبيعية الفلسطينية، حيث تحتوي على معظم الأحواض المائية الجوفية التي يسيطر الاحتلال على أكثر من 80% منها، وفي حين يحصل المستعمر الصهيوني في الضفة الغربية على 400 لتر من المياه يومياً، فإن حصة المواطن الفلسطيني تقل عن 20 لتراً في بعض المناطق و80 لتراً في مناطق أخرى، وهو واقع جعل شح المياه هاجساً يومياً للفلسطينيين.
كما أن لإسرائيل سيطرة كاملة على موارد منطقة البحر الميت الغنية بالمعادن والمواد العلاجية، وهو ما يكلف الاقتصاد الفلسطيني مئات الملايين من الدولارات سنويا، بحسب تقديرات الأونكتاد.
كما يمنع الاحتلال الفلسطينيين من استغلال معظم أراضيهم لاستخراج الموارد منها، مثل الحجر والرخام، التي حققت شهرة وشعبية واسعة في الأسواق العالمية، والمعادن والصخور اللازمة لصناعة الأسمنت. ويظل حقل الغاز الفلسطيني قبالة سواحل غزة أبرز مثال على تعطيل الاحتلال وسيطرته على مقدرات الاقتصاد الفلسطيني.
حقل غزة مارين هو أول حقل غاز يتم اكتشافه في شرق البحر الأبيض المتوسط عام 2000، ومنذ ذلك الحين حاصرته بوارج الاحتلال ومنعت السلطة من استغلاله، رغم اكتشاف حقول غاز في المنطقة بعده، والبدء في استغلال واستخراج الغاز منها. وبحسب التقديرات الأولية فإن احتياطي الحقل يقدر بنحو تريليون قدم مكعب (32 مليار متر مكعب) من الغاز، وهو ما يكفي لتلبية احتياجات السوق الفلسطينية لمدة 15 عاماً على الأقل، وتحقيق فائض يمكن تصديره للأسواق العالمية.
ومع اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين كعضو مراقب في العام 2012، تضاعفت مساحة المنطقة الاقتصادية الفلسطينية في البحر الأبيض المتوسط عشرات المرات بموجب قانون البحار التابع للأمم المتحدة، ما يعني إمكانية تحقيق المزيد من اكتشافات الغاز في المياه الفلسطينية، لكن كل ذلك معطل بسبب منع الاحتلال استغلال هذا المورد. – (بترا وفانا)
إضافة إلى القتل والجريمة، يسرق الاحتلال الأرض والأموال والموارد الطبيعية…
– الدستور نيوز

عذراً التعليقات مغلقة